فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} أي: هنّ أيضًا حلّ لكم. والجمهور: على أن المراد بـ {المحصنات} العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفًا وسوء كلية.
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف- ممن فسّر {المحصنات} بالعفيفات؛ أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها بـ (الحرائر) قال: لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحالٍ، إِذْ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدّ المسلم.
تنبيهات:
الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.
ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأنَّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون. وروى البيهقي وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضًا عن سعيد بن المسيب، أن عُمَر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارِقْها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر: طلِّقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عُمَر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة. وروي أيضًا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حلّ، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضًا عن معمر عن الزهري قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وكان يقول: لا أعلم شركًا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلاّ، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. وكقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُم} [آل عِمْرَان: 20].
الثاني: استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الأذن في الذميات خاصة، ويقرأ: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ}-إلى قوله-: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ}. قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدًا. فليأمل!.
الثالث: قال المهايمي: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب- كما قدمنا- اعتبر في باب النكاح، فأحلّ المحصنات منهم، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستولٍ على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل، فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابيّ. على أن فيه إذلالًا للمسلمة فلا تحتمل.
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من {المحصنات} المؤمنات منهن. ذهابًا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية- وهو مروي عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلمٍ نكاح كافرة ٍ، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. قالوا- يعني الأكثرين-: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}. إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} [التوبة: 31]. وعن ابن عمر: لا أعلم شركًا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذٍ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غَيْرَيْنِ، حيث قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1]. قلنا هذا كقوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} قلنا: في سورة النور: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26]. وقوله في سورة النساء: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25]. فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأوّل هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} [البقرة: 146]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عِمْرَان: 199]. قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]. عام نخصّه بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}؛ أو نقول: أراد بـ: {الْمُشْرِكَاتِ} الوثنيات وبـ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ}، ما أفاده الظاهر. أو يقول قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ} ناسخًا لتحريم الكتابيات يقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ}. قلنا: نقابل ما ذكرتم بما روي، أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك»؛ وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأوّل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فنجمع ونقول: تخصيص المشركات بـ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} متراخٍ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا: روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلَّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا». قال في «الشفا»: قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه وهو فقه غريب.
وقوله تعالى: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: أعطيتموهنّ مهورهن. وتقييد الحلّ بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشدّ من شغلها بحق الله تعالى: {مُحْصِنِينَ} متعففين: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: غير مجاهرين بالزنى: {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} مسرين به، و(الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في «العناية».
قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء- وهي العفّة عن الزنى- كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضًا محصنا عفيفًا. ولهذا قال: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وهم الزنات الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهن عمن جاءهم: {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهنّ، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله».
وروى ابن جرير: أن عُمَر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصاب فاحشةً في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.
وقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يريد بـ (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، كـ (درهمٌ ضَرْبُ الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}... تعظيمًا لشأن ما أحله الله وما حرّمه، وتغليظًا على من خالف ذلك. كذلك في «العناية». اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} أي يَسْأَلُكَ الْمُؤْمِنُونَ أَيُّهَا الرَّسُولُ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ اللُّحُومِ خَاصَّةً؟ وَالسُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَهُمْ لَا: لَنَا مُرَاعَاةً لِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي يَسْأَلُونَكَ وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ كَمَا هُنَا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، يَقُولُونَ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ أَبَا رَافِعٍ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ النَّاسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ صَيْدِ الْكِلَابِ، وَأَكْلِ مَا أَمْسَكْنَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَزَيْدَ بْنَ مُهَلْهَلٍ الطَّائِيَّيْنِ، سَأَلَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَامِرٍ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَائِدَةِ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ بِلَفْظِهَا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ تَنْزِلْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَإِلَّا فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا.
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ الطَّيِّبُ: ضِدُّ الْخَبِيثِ، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} (5: 100) وَقَدِ اسْتُعْمِلَا فِي الْأَنَاسِيِّ وَالْأَشْيَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُ {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} (34: 15) قَالَ الرَّاغِبُ: الْمُخْبَثُ وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَمْ مَعْقُولًا، وَأَصْلُهُ: الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الْجَارِي مَجْرَى خُبْثِ الْحَدِيدِ. اهـ. وَقَالَ فِي الْحَرْفِ الْآخَرِ: وَأَصْلُ الطَّيِّبِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ، وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ. اهـ. فَجَعَلَ الطَّيِّبَ أَخَصَّ مِنْ مُقَابِلِهِ فِي بَابِهِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ هِيَ مَا تَسْتَطِيبُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةُ الْمَعِيشَةِ، بِمُقْتَضَى طَبْعِهَا، فَتَأْكُلُهُ بِاشْتِهَاءٍ، وَمَا أَكَلَهُ الْإِنْسَانُ بِاشْتِهَاءٍ هُوَ الَّذِي يُسِيغُهُ وَيَهْضِمُهُ بِسُهُولَةٍ، فَيَتَغَذَّى بِهِ غِذَاءً صَالِحًا، وَمَا يَسْتَخْبِثُهُ وَيَعَافُهُ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ هَضْمُهُ، وَلَا يَنَالُ مِنْهُ غِذَاءً صَالِحًا، بَلْ يَضُرُّهُ غَالِبًا فَمَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ خَبِيثٌ بِشَهَادَةِ اللهِ الْمُوَافَقَةِ لِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَمَا زَالَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَعَافَوْنَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَمَا مِثْلُهَا مِنْ فَرَائِسِ السِّبَاعِ وَالْمُتَرَدِّيَاتِ وَالنَّطَائِحِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَأَمَّا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّمَا يَعَافُهُ مَنْ يَعْرِفُ ضَرَرَهُ وَانْهِمَاكَهُ فِي أَكْلِ الْأَقْذَارِ. و{الْجَوَارِحُ}: جَمْعُ جَارِحَةٍ، وَهِيَ الصَّائِدَةُ مِنَ الْكِلَابِ وَالْفُهُودِ وَالطُّيُورِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سُمِّيَتِ الصَّوَائِدُ جَوَارِحَ مِنَ الْجَرْحِ، بِمَعْنَى الْكَسْبِ؛ فَهِيَ كَالْكَاسِبِ مِنَ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (6: 60) أَيْ: كَسَبْتُمْ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَرْحِ: بِمَعْنَى الْخَدْشِ، أَيْ إِنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْرَحَ مَا تَصِيدُهُ. و{مُكَلِّبِينَ} اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّكْلِيبِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ وَتَأْدِيبُهَا وَإِضْرَاؤُهَا بِالصَّيْدِ، وَأَصْلُهُ تَعْلِيمُ الْكِلَابِ، غُلِّبَ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَلَبِ بِالتَّحْرِيكِ، بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ: هُوَ كَلِبٌ- كَكَتِفٍ- بِكَذَا، إِذَا كَانَ ضَارِيًا بِهِ، وَمَوْضِعُ مُكَلِّبِينَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ، أَيْ: أَنْتُمْ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ، أَيْ مِمَّا أَلْهَمَكُمُ اللهُ إِيَّاهُ وَهَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَرْوِيضِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَعْلِيمِهَا، وَمَا أَلْهَمَكُمْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ إِلَّا وَهُوَ يُبِيحُهُ لَكُمْ، وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالِيَّةٌ مُرَاعَاةُ اسْتِمْرَارِ تَعَاهُدِ الْجَوَارِحِ بِالتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّ إِغْفَالَهَا يُنْسِيهَا مَا تَعَلَّمَتْ، فَتَصْطَادُ لِنَفْسِهَا وَلَا تُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِمْسَاكُهَا عَلَيْهِ شَرْطٌ لِحِلِّ صَيْدِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي أَلْهَمَنِيهِ اللهُ تَعَالَى أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا فَنُكْتَتُهَا تَذْكِيرُ النَّاسِ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيمِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ الْأَحْكَامِ بِمَا يُغَذِّي التَّوْحِيدَ وَيُنَمِّي الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ اللهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ. وَغَايَةُ تَعْلِيمِ الْجَارِحِ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ بِإِغْرَاءِ مُعَلِّمِهِ أَوِ الصَّائِدِ بِهِ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَيَنْزَجِرَ بِزَجْرِهِ، وَيُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَيْهِ.